العقيد بومدين في صورة نادرة من ارشيف الثورة الجزائرية
بالطا قال إن حواراته معه ''تميزت بحرية كبيرة في الكلام''
'' بومدين كان مقتنعا بضرورة استعادة العربية لسيادتها في الجزائر''
روى بول بالطا في البداية قصة اختيار بومدين للفرنسية كلغة للحوار فقال ''كنت قد نشرت كتابا حول السياسة العربية لفرنسا وعددا من المقالات حول تعليم اللغة العربية؛ ووجدت كل ذلك فوق مكتبه· بعد كلام عام جرى باللغة الفرنسية سألني خلاله عن مقابلاتي الصحفية مع كل من ديغول، بومبيدو، وعبد الناصر، فأجبته هكذا: ''السيد الرئيس، أظن أنكم تجرون مقابلاتكم الرسمية باللغة العربية''، فهز رأسه موافقا· حينئذ شرحت له حداثة عهدي بالمصطلحات الاقتصادية والسياسية العربية، طالبا منه التكلم بتأنٍّ· وأجابني إجابة الفارس: ''السيد بالطا، لقد قدمتم في كتاباتكم الكثير في سبيل ثقافة العرب وكرامتهم· لقد بدأنا الحديث باللغة الفرنسية، فلنواصل بهذه اللغة إذاً''· ثم أضاف ''لقد تميزت كل هذه الحوارات ـ وأحرص على تأكيد ذلك ـ بحرية كبيرة في الكلام''·
وعن مدى إتقانه للحديث باللغة الفرنسية كشف بول بالطا أن أسلوب بومدين ''كان بسيطا وصافيا ومفرداته صحيحة ومفهومة· وقد لاحظت أنه لم يكن يرتكب أخطاء لا نحوية ولا صرفية· لكن ما لفت انتباهي لديه هو اختياره لأصلح الكلمات في ذكر الأشياء ووصف الأحداث''·
ولم يلاحظ بول بالطا خلال لقاءاته مع الرئيس الراحل أي تعارض بين حرصه على استرجاع الجزائر لهويتها العربية الإسلامية وبين تفتحه على الثقافات الأخرى· وحسبه فإنه ''ليس هناك أي شك في أن بومدين كان مقتنعا جدا بضرورة استعادة اللغة والثقافة العربيتين لمكانتهما السيادية في الجزائر· كما كان يحرص كل الحرص على أن تكون خطبه الرسمية مكتوبة باللغة العربية· وقد كانت له، من دون شك، معارضة ضد الفرنكوفونية من وجهة نظر أنها حركة للسيطرة الفرنسية على مستعمراتها القديمة· إلا أنه كان، بالمقابل، يمتاز بتفتح كبير على الثقافة الغربية بشكل عام؛ هذه الثقافة التي كان يريد ترقية علاقات التبادل بينها وبين الفكر العربي والإسلامي''·
''أدرك أن الاستيلاء على الحكم كان مرهونا بمشروع واضح وجماعة
يُعتمَد عليها وإمكانيات كافية''
وعن سؤال حول إن كان لهواري بومدين مشروع للاستيلاء على الحكم، رد بالطا: ''قدرة بومدين على استباق الأحداث أريد أن أبرزها من خلال ما سجلته خلال مقابلة أجريتها مع جمال عبد الناصر بتاريخ 16 جويلية .1958 بعدما أكد لي عبد الناصر أن ''ديغول سيحقق السلم بالجزائر؛ إنه تحليل شخصي· نظرا إلى أن ديغول هو وطني كبير، سينتهي الأمر به إلى فهم معنى كفاح الوطنيين الجزائريين· كذلك كان هواري بومدين برؤيته البعيدة، مدرجا في حسابه كافة الاعتبارات المتصلة بالحرب· لقد قال لي في ما بعد إنه عندما عيِّن على رأس قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني، أسرّ إليه عبد الناصر بتحليله حول المشاريع المحتملة للجنرال ديغول وبقي يتذكر الأمر دائما···''· قبل أن يضيف ''ما نعلمه فعلا، هو أن هواري بومدين، الذي كان مولعا بأخبار التاريخ السياسي، قد أدرك مبكرا أن الاستيلاء على الحكم كان مرهونا بثلاثة شروط مسبقة، وهي وجود مشروع واضح، جماعة يُعتمَد عليها، وإمكانيات كافية···''
''لم يكن يريد جيشا كلاسيكيا رابضا
في الثكنات من دون عمل،
ولا جيشا انقلابيا''
قال بول بالطا ردا على سؤال حول علاقة الرئيس الراحل بالجيش ''كان بومدين مقتنعا أن الجيش سيمثّل، غداة الاستقلال، القوة الوحيدة المتماسكة، والقادرة على التأثير في الواقع، ولم تغب عن ذهنه ضرورة الاهتمام به منذ تلك الأيام التي خصص له قصارى جهده· لقد عرف بومدين كيف يجعل من مجموعات مبعثرة من المقاتلين وحدات قتالية حقيقية· بعد الاستقلال، نجح في إدماج أفراد الولايات التاريخية ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي· ذلك ليس بالأمر الهين أبدا''· وأضاف بالطا ''لقد كان بومدين، من دون منازع فعلا، مؤسس الجيش الجزائري بالمعنى العصري للكلمة''·
وبحسب اعتقاد بول بالطا، فإن بومدين لم يكن يريد جيشا كلاسيكيا رابضا، من دون عمل، بالثكنات ولا جيشا ''انقلابيا'' من ذلك النوع الذي كانت تعرفه بلدان أمريكا اللاتينية· باختصار، لم يكن يريد جيشا ذا ميولات بورجوازية وإنما، بالعكس، جيشا يعيش في تآلف مع الشعب، منخرطا كليا في مهام التنمية الوطنية· ''لقد استعمل هواري بومدين الجيش كأداة للاستيلاء على السلطة، طبعا، لكن من دون السماح له أبدا أن يتحول إلى فاعل مستقل في الحياة السياسية، ناهيك عن أن يصبح خادما لمصالحه الخاصة''·
وبخصوص سؤال حول علاقة بومدين بمصالح الاستعلام، قال بالطا ''لقد سألته عن هذا الموضوع، غير أنه بدا لي متحفظا· مشيرا فقط إلى أنه لم يفصح لي بشيء ماعدا أن هذه المصالح كانت تابعة مباشرة لرئيس الدولة تجنبا لأية انزلاقات''·
__________________